كيف نستطيع أن نعوض البيت الذي ينقصه مناخ الإثارة التي تقود إلى الإبداع؟ يجب أن نبدأ باكرا وفي السنين قبل المدرسية، وذلك حين تكون نفس الطفل أكثر تحسسا بالتغيير في الإثارة ، ومن هنا كانت الأهمية التي يعلقها العلماء على التربية قبل المدرسية، ولاسيما بالنسبة لأبناء البيوت الفقيرة لا اقتصاديا فحسب ، وإنما علميا وثقافيا وحضاريا.

مقدمة:

لقد تزايد الاهتمام في النصف الثاني من القرن العشرين بالإبداع وتربيته، وأخذ كثير من علماء النفس يؤكدون على أن خبرة السنوات الأولى التي تمتد بين الولادة والسنة الخامسة من العمر، تكاد تكون حاسمة في تكوين شخصية الطفل، وإليها يرجع الأمر فيما يحققه من نجاح وتفوق في حياته، والموضوع هنا يشير إلى مرحلة السنين قبل المدرسية التي تكون فيها نفس الطفل أكثر إحساسا بالبيئة المحيطة. ففي هذه الفترة يتشكل المجال الخصب لنمو الذكاء والقدرات الخاصة بالإبداع، وإذا كانت الدول المتقدمة قد قطعت أشواطا كبيرة في تطوير رياض الأطفال وتجهيزها فإن بلدان العالم الثالث لم تحط هذا الجانب بالعناية، وتشير إحصائيات تربوية أن نسبة الأطفال الذين يرتادون رياض الأطفال في البلاد العربية لا تتجاوز نسبتهم3% من مجموع الأطفال الذين يتراوح عمرهم بين الثالثة والخامسة وسنتناول بالتحليل أهم الأفكار التي يطرحها الموضوع من خلال الأسئلة الآتية:

ما معنى الإبداع؟

1- يعني الإبداع في اللغة(إحداث شيء على غير مثال سابق) وورد في معجم la rousse(إن الإبداع قدرة على الخلق متوفرة لدى كل الأفراد في كل الأعمار ، وهي مرتبطة بالوسط السوسيوثقافي ، تحتاج إلى ظروف مواتية لتتمكن من الظهور).

(والإبداع هو إيجاد الشيء ، ولكن لأعلى مثال، وليس الإبداع مجرد محاكاة لشيء موجود وإعادة بنائه، بل هو الكشف عن علاقات ومتعلقات ووظائف جديدة، ثم إبداع الصيغة الصالحة لتجسيم هذه العلاقات والمتعلقات ولإبراز هذه الوظائف.

وإذا كان هذا هو مفهوم الإبداع في معناه العام ، فكيف يظهر عند الأطفال؟

 يظهر الإبداع لدى الطفل منذ حداثته، فنجده يبدع في لعبه، ورسوماته وتمثيله للأدوار، فالطفل يخلق من العصا فرسا، ومن الدمية طفلة ، ويصنع من كيس النيلون بالونا يصعد به في الفضاء، ويأخذ عصا يصنع منها سيفا أو مسدسا، وهكذا يأخذ في تنظيم الأشياء والمواد المألوفة ليستخدمها في مجالات ومواقف غير مألوفة.

والطفل إذ يستخدم هذه الأدوات استخداما جديدا يستكمل بذلك ما يستلزمه الدور الذي يقوم به، من حيث الملابس والآليات ، لأنه يتوخى البساطة في لعبه عندما تعوزه المواد الحقيقية، وكلما نشط في ذلك عد من المبدعين ، ذلك لأن اللعب التمثيلي يعد من مراحل التفكير الإبداعي.

ما دور السنوات الأولى في تربيته؟

2- وننتقل إلى مرحلة ما قبل التمدرس التي ذكر الباحثون أن الإبداع يبرز فيها، فلقد انتهت دراسات تجريبية عديدة إلى تأكيد الدور الكبير لمرحلة الطفولة الأولى، وإلى تأكيد جملة من الحقائق أهمها:

– الأطفال الذين تلقوا تربية سابقة على الدراسة الابتدائية (في رياض مثلا) يصيبون في الدراسة الابتدائية، وما يليها نجاحا أكبر من سواهم.

– الأطفال الذين هيئت لهم مثل هذه التربية المبكرة ، تكون قدرتهم على التكييف مع المجتمع والبيئة أوفر وأخصب.

– العناية بالسنوات الأولى من العمر ليس من شأنها أن تزيد من قدرة الفرد على التعلم فحسب، بل من شأنها أن تزيد من طاقة ذكائه ومن مدى قدراته.

وبما أن مرحلة ما قبل المدرسة مرحلة حاسمة في تكوين معالم شخصية الطفل ، فإنه يبدو جليا ضرورة إثارة النشاط الإبداعي وبلورته لدى الطفل في هذه المرحلة، ما يجب أن نفسح المجال للطفل ليعيش طفولته بكل مقوماتها ومطالبها جسميا ونفسيا واجتماعي، وذلك من أجل بناء شخصية متوازنة ومتكاملة بناء يدفعه إلى اكتشافه ذاته وإثباتها.

وإن العناية بشخصية الطفل في المرحلة التي تمتد بين السنة الرابعة والسادسة تستلزم إثراء الروض بوسائل تساعد الطفل على تنمية قدراته الإبداعية، هذا فضلا عن تنظيم البرامج والنشاطات الملائمة لسن الطفولة. ومن أهم الأنشطة المعتمدة في رياض الأطفال نذكر ما يلي:

  • اللعب: إن أطفال هذه المرحة محتاجون إلى حرية التعبير عن أنفسهم بطلاقة ودون خوف، ولا سبيل إلى تشجيعهم على ذلك إلا بواسطة اللعب في أوضاعه وأشكاله المختلفة، ويعتبر اللعب نشاطا عاما يتفاعل مع كثير من النشاطات الإبداعية التي تحتويها الرياض مثل التمثيل والنشاط الحركي…
  • التمثيل: وهو نشاط مستقل يساعد الطفل على التخلص من تمركزه الذاتي، وينمي قدراته العقلية. والتمثيل من أنجح الأساليب لتعويد الطفل على الطلاقة والبوح بما يختلج داخله من انفعالات وتحريره من الرغبات.
  • أنشطة الملاحظة : كلما وفرنا للطفل مجالات متنوعة للملاحظة كان خياله الإبداعي أقدر على الانطلاق.
  • النشاط الحركي: أجمع معظم علماء النفس على أن الطفل في هذه المرحلة محتاج إلى فرص لاكتساب المهارات الجسمية.
  • الأعمال اليدوية: إنه في حاجة أيضا إلى إمداده بالمواد وإتاحة الفرصة له ليجرب في ميادين النشاط المتعددة التي تستهويه.

كما أن حث الطفل على القيام بتجارب بسيطة واختبارات سهلة تساعده على اكتشاف الموضوعات بنفسه وتجعل منه تدريجيا فردا باحثا ومبتكرا.

وتختلف رياض الأطفال فيما توفره من إمكانيات ووسائل لخلق المثير لدى الطفل حتى يبدع. فمن رياض الأطفال ما يعتمد على ألعاب حية(قابلة للحركة) مثل: دمى متحركة، سيارات، ووسائل نقل صغيرة…وهذه اللعب تثير لدى الطفل نوعا من الإثارة في كونها تدعوه لاكتشاف العلاقات الحاصلة بين أجزائها أو المتحكمة في حركتها، كما تدفعه للتحكم فيها والسيطرة عليها، وتخطيط الإطار لحركتها من أجل تكوين بنية منظمة اجتماعية مصغرة ،وفق شروط يخلقها لتتحرك داخلها وكأنها مجتمع مصغر.

وهناك رياض تضيف إلى ما سبق وسائل أخرى ، الغاية منها خدمة حواس الطفل، وإثارة الحسية الحركية في ذاته، ومنها استعمال العجين والأقراص والقضبان والمكعبات ، واللعب البلاستيكية ذات الأشكال المختلفة، وقد تكون عبارة عن خضر وفواكه بألوانها الأصلية، ويمكن للطفل أن يتسلى بتمييز هذه الأشكال وتصنيفها.

ما هي نتائج الدراسات العلمية حول الإبداع؟

3- ومن أهم النتائج السيكولوجية والتربوية التي توصل إليها المربون المحدثون نذكر ما يلي:

– أن الطفل في مرحلة الروض يحتاج إلى حرية التعبير عن نفسه بدون خوف وينبغي تشجيعه على إبراز كيانه بواسطة اللعب.

– ويكون الطفل بالغ الحساسية بالمثيرات الحسية المختلفة التي تحيط به ولذا ينبغي أن نثري الروض بجميع الوسائل التي تساعد الطفل على تنمية قدراته الإبداعية .

– إن ممارسة الطفل للأنشطة الفنية من شأنه أن يفسح المجال لإبراز القدرات الإبداعية.

– إن الإبداع ينطلق من القدرة على الملاحظة، ولهذا كلما وفرنا للطفل مجالات متنوعة للملاحظة، كان خياله الإبداعي قادرا على الانطلاق على أحسن وجه.

ولتحقيق ذلك ينبغي إحاطة المربي في رياض الأطفال علما بمبادئ النمو البيولوجي والنفسي للطفل وبأحدث ما توصلت إليه الدراسات في هذا الميدان وهناك دون شك ، جملة من المبادئ الخاصة بأساليب تربية الأطفال في كل سنة من سنوات العمر الأولى، وهي تبين ما ينبغي أن يقدم للطفل من خبرات وتدريبات ومعارف في كل هذه السنوات، ومن تم تبرز أهمية التكوين المتين للمربين في رياض الأطفال، ولا يجوز أيضا أن يقتصر التكوين على المعلمين وحدهم ، لأن دور الآباء لا يقل أهمية عن دور غيرهم، فلابد أن يتلقوا حظا من الثقافة السليمة تؤهلهم لمساعدة أبنائهم على النضج والانفتاح، ويستعان في هذا المجال بوسائل الإعلام الجماعية، وبجهود الجمعيات والمنظمات ، ويمكن أن تقوم الجمعيات النسائية بدور بارز في هذا الجانب.

خاتمة:

من خلال التحليل السابق نستنتج أن الإبداع هو قدرة كامنة عند كل الأطفال الأسوياء، وأن التربية في الرياض يمكن أن تكشف عن هذه القدرة وتنميتها بخلق المثيرات والحوافز لتحقيق الاستجابة الإبداعية.

وينبغي الاستفادة من نتائج الأبحاث في مجال علم النفس والتي أثبتت أهمية السنوات الأولى ودورها في تنمية طاقات الإبداع، ويمكن أن ننتقد بشدة معظم رياض الأطفال في بلدنا والتي يسعى المعلم فيها إلى ضبط الأطفال وجعلهم هادئين مستقرين دون أن يحرص على تفتيح شخصياتهم نحو مجال الإبداع الواسع.

error

يمكنك متابعتنا ووضع لايك .. ليصلك كل جديد