تمكنت كوريا الجنوبية من أن تجعل من تربيتها أداة فعالة في مسيرة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أرضها.
وأرض كوريا لمن لا يعرفها وعرة التضاريس، فأغلب أرضها جبال وعرة، وسواحلها صخرية شديدة الانحدار، ومناخها قاري، ومع صعوبة المناخ والتضاريس واجهت كوريا تحديات هائلة في القرن العشرين، فقد خضع شعبها لسيطرة اليابان أكثر من خمس وثلاثين سنة، وقد كان هناك صلة تربوية بين الدولتين فرضته طبيعة هذه السيطرة وصلات الجوار، على الرغم من أن التربية في كوريا تعود جذورها إلى تاريخ بعيد حيث أنشئت أول مدرسة نظامية فيها عام 372م ، لكن الصياغة التربوية والهيكل التنظيمي الحديث لم يصل بعد إلى الخمسين عاماً، ومع ذلك فثمار التربية في كوريا الجنوبية تلمس وتُرى.
النظام تربوي في كوريا الجنوبية نظام حديث يهتم بصورة فعّالة بإكساب المهارات وتعزيز القدرات الأساسية، ويهتم بالتطوير النوعي للتربية العلمية.. ويضع الثقافة الحديثة المتطورة نصب عينيه، وهو يشارك بدور كبير في عمليات التنمية من خلال بناء الإنسان الواعي المبدع والملتزم بالعمل والأخلاق.
ويقف النظام التربوي بكل قوة ليعزز مكانة التربية والتعليم، فيهتم منذ مرحلة رياض الأطفال بتربية الأطفال وبناء أجسامهم وتنمية لغتهم وذكائهم وغرس قيم التكيف الاجتماعي في نفوسهم وسلوكهم.
والمرحلة الابتدائية في كوريا مرحلة إجبارية للجميع، ثم تأتي المرحلة المتوسطة لتكون إجبارية في بعض المناطق وخاصة مناطق صيد الأسماك والمناطق الزراعية.
مكانة التعليم
وإذا أردنا أن نقف على مكانة التعليم لدى أبناء الشعب الكوري الجنوبي فلنا أن نعلم أنه رغم أن المرحلة الثانوية غير ملزمة وغير مجانية إلا أن نسبة التحاق من أنهوا المرحلة المتوسطة والتحقوا بالثانوية تصل إلى 94%.. فهل يعود ذلك إلى تلك المرونة التي توفرها برامج المرحلة الثانوية والمتمثلة في التشعيب الموجود (أكاديمي – فني- مهني – مراسلة)؟ الإجابة ربما – وهل يعود ذلك إلى أن المرحلة الثانوية تُعِدُّ الإنسان للدراسة وللحياة في آن واحد؟ ربما أيضا؛ لأن حوالي تسعين في المائة من خريجي التعليم المهني ينخرطون في سوق العمل، بينما يتجه الباقي منهم إلى مواصلة الدراسة.
وهل تتزايد نسبة الملتحقين بالمرحلة الثانوية نظراً لذلك المناخ التربوي، الذي يجعل التعليم والثقافة المعاصرة فرصة سانحة فيوظف التلفاز بصورة فعالة في التعليم الأكاديمي والمهني؟
يُجيبنا عن ذلك البث الإذاعي والتلفازي عبر قناة متخصصة تستغرق ست ساعات من البث كل يوم في كوريا لتوفر فرصة التعليم في ثوب تقني تربوي معاصر.
وما التطور الذي تعايشه كوريا الآن ببعيد عن فعل التربية، حيث تدل الأرقام على نمو الناتج الوطني الكوري بنسبة عالية في الوقت الذي تستوعب فيه المدارس الابتدائية أربعة ملايين طالب يمثلون 100% من الأطفال في عمر دخول المدرسة، إضافة إلى أربعة ملايين طالب كانوا في الوقت نفسه في المرحلة المتوسطة، وحوالي 825000 طالب في المدارس الفنية والثانوية.
إن هذه الأعداد المتزايدة من الطلاب يتعلمون وفق مناهج دراسية تنمي لديهم السلوك الحياتي المفيد..ولنا أن نتصور ما يحدثه منهج دراسي يعلِّم التلاميذ في المرحلة الابتدائية المواد الدراسية الآتية:
– التربية من أجل الأمانة.
– التربية من أجل الحياة ذات المعنى.
– التربية من أجل التمتع بالحياة.
– التربية الخلقية.
– التربية الرياضية.
– الحِرَف.
– النشاطات اللاصفية
وهذه النشاطات بطبيعة الحال إلى جانب تعليم اللغة والحساب والدراسات الاجتماعية- قادرة على أن تفعل شيئاً مهماً هو بناء الشخصية وبناء الذات القادرة على العطاء المتميز في الحياة.
إن هذه المناهج يتم دراستها خلال عام دراسي تصل أيامه في حدِّها الأدنى إلى مائتين وعشرين يوماً.
هذا المنهج الموجه في عام دراسي طويل وجاد يؤدي إلى آثار إيجابية بعيدة المدى تنتج عن مدرسة لا تقيم وزناً كبيراً للاختبارات، بل تجعل اهتمامها مُنصباً على امتلاك طلابها للمعلومات والمهارات والمفاهيم الأساسية ولو تَطَلَّب الأمر أن يستمر المدرسون مع الطلاب إلى ساعات متأخرة من الليل حتى تتأكد المفاهيم، وترسخ المهارات، وتنمو المعارف.. هذا هو شأن المدرسة الابتدائية والمتوسطة في كوريا الجنوبية.
هذه المدارس يقف في قمة جهازها الإداري مدير مسؤول لا يصل إلى هذه الدرجة إلا إذا أمضى خمسة وعشرين عاماً في مهنة التعليم.. وإن كان هذا الشرط يبدو قاسياً غير أنه يوفر الخبرة، ويرفع من كفاية عملية التعليم، ويزيد من فاعلية المدرسة في أداء وظيفتها.
إن التعليم في كوريا الجنوبية يقف وراء تطويره جهاز متخصص هو المعهد الكوري للتطوير التربوي الذي جاء معبِّراً عما يحظى به التعليم من مكانة اجتماعية واهتمام من الجميع في كوريا الجنوبية، تلك المكانة التي تترجمها ميزانية الدولة حيث يحظى التعليم بحوالي 21% من الموازنة. كما تترجمها توجهات المسؤولين في تحقيق مبدأ عدم المركزية للمؤسسات القائمة على التعليم بما يتناسب واتخاذ القرارات التربوية الملائمة.
التوجيه.. والإرشاد
ولكي نعي عمق التجربة في كوريا الجنوبية نلقي نظرة شاملة على التوجيه والإرشاد الطلابي فيها كجزء مهم في المنظومة التعليمية قلّما يلتفت إليه الباحثون والكتاب.
دخلت فكرة التوجيه والإرشاد الطلابي إلى كوريا الجنوبية عام 1949م على يد أحد الأساتذة تخرج في الولايات المتحدة الأمريكية . وفي عام 1954م تضمن برنامج تدريب المعلمين أثناء الخدمة مقرراً في الإرشاد والصحة العقلية. وفي عام 1957م استحدثت وزارة التربية وظيفة المدرس المرشد، وبدأت برامج تدريب المدرسين في مجال التوجيه والإرشاد.
وقد قامت كلٌّ من جامعتي «سيؤول» الوطنية وجامعة كيني بوج الوطنية بتقديم برامج تدريبية أثناء الخدمة للمدرسين / المرشدين، وتضمنت هذه البرامج المقررات التالية:
– سيكولوجية السلوك الإنساني.
– أسس التوجيه والإرشاد.
– علم نفس النمو.
– الاختبارات والمقاييس النفسية.
– الصحة العقلية.
وقد انصب اهتمام المرشدين في السنوات الأولى على الاختبارات والمقاييس وبرامج الإرشاد المهني، وتمَّ بناء بطارية للاختبارات النفسية في كوريا. ولكي يتم استقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب للتعليم المهني ركَّزت برامج الإرشاد من خلال المرشدين على سمو وأهمية العمل المهني وذلك لأنه أساس تطور البلاد، وقد واكب هذه الحملة الإرشادية بناء معاهد لتعليم المهن على أحدث طراز، ويضاهي مباني المدارس الثانوية، وزودت هذه المعاهد بكل ما تحتاجه من وسائل تعليمية ومرافق رياضية.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود فقد ظل الآباء والطلاب ينظرون للتعليم الثانوي الأكاديمي على أنه أعلى معنوياً من التعليم المهني، وظلت معاهد التعليم المهني لفترة من الزمان تعاني من قلة الإقبال عليها.
في الجامعة أيضا
ولكي تمتد خدمات الإرشاد إلى الطلاب في الجامعات تمَّ إنشاء مركز التوجيه والإرشاد الطلابي في جامعتي سيؤول وكيونيج عام 1962م، وتركزت أهداف هذا المركز فيما يلي:
1- رعاية الصحة العقلية والعاطفية للطلاب.
2- مساعدة الطلاب على حسن التكيف وحل مشكلاتهم.
3- مساعدة الطلاب للاستفادة القصوى من مواهبهم وقدراتهم.
4- تشجيع روح التعاون بين الطلاب من خلال النشاطات المختلفة.
5- حث المتخصصين على إجراء البحوث والدراسات.
ويضطلع مجلس إدارة المركز بالإشراف العام والتقويم، وإقرار الخطة والميزانية، واختيار مدير المركز.
أما قسم الإرشاد فيقوم بالمسؤوليات التالية:
– توفير المعلومات المهنية والوظيفية للطلاب.
– توفير المعلومات عن الدراسة في الجامعات الكورية والأجنبية.
– إعداد نشرات عن أساليب الدراسة والاستذكار.
– إعداد برامج لتعريف الطلاب الجدد بالجامعة.
– إقامة الندوات والمؤتمرات المتخصصة.
– تنظيم المقابلات بين الأساتذة والطلاب.
– توفير الخدمات الإرشادية للمشكلات العاطفية، والشخصية، والأسرية، والدراسية، وغير ذلك من الخدمات التي يحتاجها الطالب.
– إعداد اختبارات الذكاء الفردية والجماعية، والاختبارات الشخصية، والتحصيلية .
– تقديم المساعدات المالية للطلاب المحتاجين ، ومساعدة الطلاب على التوظف جزئياً وكلياً.
أما قسم البحوث فيضطلع بالمهام التالية:
– إجراء البحوث والدراسات.
– إصدار النشرات والكتيبات والأدلة .
– إصدار المجلات المتخصصة.
– إعداد البرامج التدريبية، والإشراف على تنفيذها.
– عقد اختبارات الكفاءة للمرشدين.
هذا وقد شهدت برامج التوجيه والإرشاد الطلابي تطوراً ًملحوظاً في كوريا الجنوبية خلال العقدين الماضيين، وقد انعكس هذا التطور إيجابياً على التربية والتعليم وبرامجها.